في فقد الأصدقاء، في ألم الافتراق والفُراق، في غربلة قائمة المقرّبين .. أكتُب..
----------
كانت الصّفحة تحتوي في المدرسة على ثلاثة أو أربعة أسماء، أكتبها وأشطبها بعد أسبوع، ومن ثمّ أكتبها من جديد. كانت هديّة من أحدهم ليوم عيد ميلادي كفيلة بأن نعود أصدقاء ونتشاطر طعام فترة "العصورنة".
ومن ثمّ أصبحت هناك أسماء لا تُمحى، وفي مرحلة ما جلست أمام هذه الأسماء واكتشفت أنّ ما يجمعنا، أنا والأسماء، سواء اتّفقت معهم على ما أصبحوا عليه أم لا، أنّنا جميعنا تغيّرنا، أنّنا جميعنا دخلنا في دوّامة إنسانيّة لا تمرّ بأحد دون أن تعصف بِه.
أؤمن أنّ كلّ مارّ في ممرّات حياتنا سيأخذ منّ أرواحنا أو قلوبنا أو عقولنا قطعة، يأخذ جزءا، فلا نعود كما كنّا. وتوصّلت إلى أنّ هذا الأمر هو التّفسير لمعادلة التّغيير.
نحن نمشي ونمرّ بممرّات بعضنا البعض، نتبادل قطع الخبرات والتّاريخ والمعلومات والشّخصيّات والأخلاق، ونمشي. نحن نتاج الكثير من القطع التّي استبدلها المارّون بقطعنا الأصلية. زُرعت فينا أمور نحاول التّخلّص منها كلّ يوم، وكذلك أصبحت فينا عادات نُشكر عليها كلّ يوم. في شبابنا، وعند دخولنا المرحلة الجامعيّة، سنتألّم كثيراً من كثرة التّبديل، سيصبح الأمر مؤرقاً ومُرهِقاً. وكما يُقال، الجامعة هي مرحلة "تكوين" الشّاب وأفكاره.
ومن ثمّ نتعب، و ستتعب أنتَ وتُرهق من تبادل القطع، ستتعب من القطع التّالفة، وستُثقل بالمُكسّرة والوسخة، فتبدأ مرحلة الغربلة. ستنظّف هذه القطعة وتلك، ولا تبقِ من حولك إلا من سيضيف إليك الجميل في الحياة، أو لنقل، سيضيف إليك ما تريده أنت. ستغربل دائرة أصدقائك، ستغربل دائرة زملائك في العمل، ستغربل كلّ القوائم، سيقل العدد، وستصغر القائمة، وسيكبر ذلك الدّفتر المدرسيّ ذو الأسماء. قد تشتاق، وقد تشعر بالخيانة..
ولكن تذكّر "فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث ..."
ولكن تذكّر "فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث ..."
فقد الأصدقاء صعب، فمعهم تذهب مجموعة من الذّكريات، أي وكأنّه عليك أن تمحو جزءا من ماضيك حتّى تنساه. يكفي أنّك قد تضطر أن تحذف صوراً من ألبومك الخاص، صوراً تجمعك بِهم، وكأنّك تحذف جزءا منك وتمزّقه فيذهب مع الرّاحلين.
ولأنّ دوّامة التّغيير لا تتوقّف، فقد قرّرتُ ألا أقاومها وإلا غرقت. نحن لم نعد في المدرسة، لم نعد زملاء يجمعنا سقف واحد تسع ساعات، ولا عشر معلّمات لاثني عشر عاماً. لم نعد جيراناً ولم نعد نشكو لبعضنا البعض همّ الاختبارات في نهار رمضان، لقد تفرّقنا، لقد وضعنا أطراف أصابعنا في الدّوامة فسحبتنا معها، واختلفنا.
ولأنّ دوّامة التّغيير لا تتوقّف، فقد قرّرتُ ألا أقاومها وإلا غرقت. نحن لم نعد في المدرسة، لم نعد زملاء يجمعنا سقف واحد تسع ساعات، ولا عشر معلّمات لاثني عشر عاماً. لم نعد جيراناً ولم نعد نشكو لبعضنا البعض همّ الاختبارات في نهار رمضان، لقد تفرّقنا، لقد وضعنا أطراف أصابعنا في الدّوامة فسحبتنا معها، واختلفنا.
أنا لم أعد أحبّ القهوة المرّة كما كنت، ولم أعد أحبّ اللّون الأصفر ولا جلسات الأرجيلة، ولم اعد عبقريّة الفيزياء. هي أصبحت تضع المكياج على وجهها، وأصبحت تضحك بطريقة غريبة. هو أصبح لا يردّ على الرّسائل التي تصله إلا نادراً، ولا يخرج أيّام الجُمعة للعب كرة القدم مع جيرانه. نحن كبرنا، درسنا، سافرنا، عملنا، بكينا، ضحكنا، عانينا، خطبنا، وتزوّجنا. نحن ربحنا مالاً، وخسرنا بيتاً. نحن اشترينا سيّارة، اشتقنا، أحببنا، انكسرنا ونهضنا. فقدنا ابنة، مَرِضنا وشُفينا، نجحنا وفشلنا. نحن تطلّقنا، نحن تركنا الصّلاة، نحن أصبحنا نقوم اللّيل. نحن اعتُقِلنا، نحن طُردنا، نحن ضُربنا. نحن تعلّمنا لغاتٍ، وغامرنا، وتُهنا. نحن لم نعدّ نقرأ، نحن أصبحنا نبكي سريعاً، ونخاف سريعاً. نحن أصبحنا متهوّرين نضحك بجنون..
نحن اختلفنا، كبرنا.. نحن جميعاً دخلنا دوّامة التّغيير..
عندما نتقابل من جَديد، أرجوكَ لا تسألني أين ذهب صوتك الضّاحك، ولا تستغرب سكوتي فدوّامتي كانت مؤلمة..
ولن استغرب بدوري اختفاءك كذلك، ولن أسألك أين كنتَ كلّ ذلك الوقت..
لا أحد منّا يعلم ماهيّة دوّامة الآخر فينا.. ولكنّها مع الوقت ستهدأ.. وسنخرج منها أحياء، وسنعود نلتقي مساء، وسنتناسى ما كان إن كنّا نريد لأيّ شيء جديد أن يكون..
نحن اختلفنا، كبرنا.. نحن جميعاً دخلنا دوّامة التّغيير..
عندما نتقابل من جَديد، أرجوكَ لا تسألني أين ذهب صوتك الضّاحك، ولا تستغرب سكوتي فدوّامتي كانت مؤلمة..
ولن استغرب بدوري اختفاءك كذلك، ولن أسألك أين كنتَ كلّ ذلك الوقت..
لا أحد منّا يعلم ماهيّة دوّامة الآخر فينا.. ولكنّها مع الوقت ستهدأ.. وسنخرج منها أحياء، وسنعود نلتقي مساء، وسنتناسى ما كان إن كنّا نريد لأيّ شيء جديد أن يكون..
ولمن لن نلتقيهم من جديد، لمن اختار مخارج أخرى من تلك الدوّامة، مخارج لا نعرفها، اختلفت طرقنا... فوداعاً مع كلّ حُب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق